ذكرتني زيارة سالم أحمد سالم السكرتير العام الأسبق لمنظمة الوحدة الأفريقية، وأحد قادة ثورة زنجبار عام 1964، للقاهرة في أبريل 2014 بذاك «الشاب» الزنجباري نفسه، وهو في منتصف العشرينات من عمره، قادماً للقاهرة آخر أبريل 1964 سفيراً لحكومة تنزانيا بعد نجاح ثورة زنجبار في يناير 1964، واتحادها مع تنجانيقا. استقبلناه وقتها في الرابطة الأفريقية بالزمالك رغم معرفتنا بأنه كان ضمن قيادة انتفاضة اتخذت المسار الدموي بالإطار العنصري الذي وقع، وأن كان هو والمفكر الراحل «عبد الرحمن بابو» قد دافعا عن نفسيهما بعد ذلك بما يبرىء ساحتهما من هذه الجرائم. تذكرت علاقتي الخاصة والمتميزة التي قامت مع شعب زنجبار منذ أوائل 1959، حيث عُينت بعد تخرجي مباشرة من آداب القاهرة مشرفاً اجتماعياً على «بيت شرق أفريقيا» الذي ضم أكثر من أربعين صبية وصبياً ورُعاتهم من الزنجباريين، ومن بعض أنحاء شرقي أفريقيا. وجاء ذلك بناء على موافقة وتوجيه عبد الناصر شخصياً لمحمد فائق ، بعد مقابلته الشيخ «علي محسن البرواني» زعيم الحزب الوطني بزنجبار منتصف 1958. حكى لي «علي محسن البرواني» في بيت شرق أفريقيا كيف رتب له محمد فايق، وعبده سلام (وزير الصحة بعد ذلك) مقابلة عبد الناصر، ليطلب منه فتح مكتب للحزب بالقاهرة، وبعض المساعدات التعليمية العاجلة لأبناء زنجبار في مصر، خاصة من أصول عربية لخوفه على اللغة العربية وثقافتها التاريخية بينهم ، بل وطلب وعداً بمساعدات واسعة لإقامة الدولة بعد الاستقلال. حكى لي بعد إتمام المقابلة مباشرة - ولا أذكر التاريخ الآن بالضبط من عام 1958 - أنه عندما قابل عبد الناصر وحدثه عن أحوال شعب زنجبار مع الاستعمار الإنجليزي، وحتى عن ظلم العائلات العربية الإقطاعية للأفارقة، وضعف قيمة السلطان العربي « جمشيد بن عبد الله» في الجزيرة، ناهيك عن أوضاع الأفارقة الأصليين. تأثر عبد الناصر تأثراً عاطفياً شديداً ووجه بإقامة هذا البيت. رشحتني مهمتي في بيت شرق أفريقيا، ثم تعييني بالشؤون الأفريقية بالرئاسة آخر 1960 لأسافر في وفد مصر إلى احتفالات استقلال تنجانيقا ديسمبر 1961، ثم ترشحني مرة أخرى عضوا في وفد مصر إلى احتفالات استقلال زنجبار في ديسمبر 1963. كان مكتب الحزب الوطني لزنجبار قائماً في الرابطة الأفريقية، كما كان هناك البرنامج السواحيلي بالإذاعة، بل وهناك اتحاد طلبة زنجبار بالقاهرة. كان لزنجبار «لوبي» في مصر من شخصيات في العمل العام، وأساتذة في الجامعة، والعبد الفقير، وبعض رجال التعليم إلى جانب حماس محمد فايق طبعاً)، كما كان بعض المحيطين بالشيخ علي محسن يعرفون رجال الأزهر. كان هذا اللوبي في النهاية يصب في خانة عروبة زنجبار وأهميتها في شرق أفريقيا، وكان مبلغ وعيي هو أهميتها في العلاقات العربية الأفريقية عموماً ، إذا اهتممنا بدعم أفارقة زنجبار مثل عربهم، لأن صورة زنجبار بسلطان عماني الأصل لم تلق ترحيباً لدى كل عناصر اللوبي المذكور... كانت العائلات العربية بادية التسلط على المجالس المحلية وزراعة وتجارة القرنفل على السواء، وشعرت كثيراً أن علي محسن نفسه يريد التخلص من هذا العبء، وإنه تبادل هذا الشعور مع عبد الناصر في المقابلة، وإنه يريد ذلك بالتوافق لا بالاتجاه يساراً! لذلك لجأ علي محسن لنمط من التوازن بتحالف مع حزب «الأفروشيرازي» المعتدل بزعامة محمد شامتي. وبمعنى ما أصبحت زنجبار عام 1962 و قبل الاستقلال بشهور تمثل عند زعماء شرق أفريقيا التقليديين أحد احتمالين؛ إما قنبلة عروبية، ناصرية، أو قنبلة ماركسية ماوية!. وكلاهما مر! ؟ لكن الذي حدث في يناير 1964 أن انفجرت القنبلة العنصرية! أو قل العرقية (أفارقة/ عرب) رغم القول بعد الاستقلال أنها أصبحت ، «كوبا أفريقيا». بدا أن الإعداد لاحتفالات الاستقلال في زنجبار هو قمة التعبير عن مأزق الشركاء هناك، وأنه مطلوب من «علي محسن» إحداث توازن ذهبي لإنقاذ الموقف من انفجار أفريقي يعتبر الاستقلال جائزة للعرب وحدهم. وفي الوقت نفسه، أراد علي محسن أن يقيم احتفالاً كبيراً يضع زنجبار في قلب شرق أفريقيا رغم صغرها. أذكر أنه حدثني كثيراً عن إعجابه بعبقرية عبد الناصر في استخدام الإعلام لبناء شخصيته وشخصية مصر في أفريقيا. وكان يسألني- بحكم تصوره أني خبير خطير في الرئاسة ! كيف يرتب عبد الناصر ذلك؟ ولا أظن أني أفدته كثيراً! ولكنه ظل دائم الاهتمام بها حتي بدا لي أنه أوصلها مع طلب إنجاح الاحتفال الكبير لعبد الناصر نفسه، الذي فهمت أنه وجه محمد فايق بالاستجابة للشيخ علي محسن! طلب الزعيم علي محسن حضور كل أشكال التعبير المصرية التي تفيد الاحتفال... من الشيخ محمود خليل الحصري، حتى فرقة رضا، وفريق كرة وصحفيين، ومذيعات. وبدا أن الشيخ علي محسن يريد تطبيق المقولة الشائعة «إن عزف المزمار في زنجبار، يرقص عليه الأفارقة على ساحل فيكتوريا..». كان الوفد يضم أكثر من مائة عضو من كل الفنون، ورأس أنور السادات الوفد، ومعه محمد فايق، واستمتعت شخصياً بصحبة الكثيرين. انزعج الإنجليز كثيراً، خاصة مع ترتيبات «علي محسن» لبروز أنور السادات في وضع نائب رئيس مصر (وكان رئيساً لمجلس الشعب على ما أذكر) مساوياً لمندوب ملكة بريطانيا - زوجها العزيز- وفي تحركنا بمواكب تثير الانزعاج. ولكن جو صمت الجمهور الأفريقي كان – بدوره - مريباً ، وكأنه يشير إلى ذلك الذي يسبق العاصفة. سياسياً بدا التوازن يختل في إقليم شرقي أفريقيا، مع بروز تساؤل عن دخول زنجبار ترتيبات اتحاد شرقي أفريقيا أم يعوقها نيريري ..... الخ. لم تمض أيام بعد عودتنا حتى وصل المرحوم «أحمد اللمكي» سفيراً لزنجبار لدى عبد الناصر! وراح يتحرك بسرعة مستخدماً «لوبي زنجبار» لإقامة أفضل العلاقات. ذات مساء متأخر يوم 12 يناير 1964- وبعد إقامة السفير أحمد اللمكي في القاهرة لبضعة أسابيع فقط- دق التليفون في منزلي حوالي الواحدة صباحاً، ثم حضر اللمكي يطلب مني الذهاب معه حالاً لمحمد فايق ليقابله بعبد الناصر الليلة لطلب تدخله العسكري فوراً في زنجبار ضد «الانقلاب المذبحة » الذي وقع تلك الليلة، وضرورة حماية العرب من المذابح التي يتعرضون لها في الجزيرة ! لم يقصر السيد محمد فايق في التعبير عن حزنه من ناحية ودهشته لمثل هذا الطلب من ناحية أخرى.. كما استبعد أن يوقظ عبد الناصر لإبلاغه في تلك الساعة...! وأخذ في تهدئة «اللمكي» مشيراً إلى صعوبات ذلك، رغم إشارة اللمكي إلى أن قوات مصر في اليمن أقرب وتستطيع الوصول بسرعة! وكان ذلك كله مستحيلاً، وبالضرورة وصل هذا الشعور إلى "اللمكي"، لأننا كنا أقمنا منظمة الوحدة الأفريقية حديثاً، ونستعد لاستقبال مؤتمر قمتها الأول في مايو1964 ونقر مبدأ عدم التدخل.. وأخيراً فإن مأزقنا في اليمن بات معروفاً.. وإذن لا سبيل إلا سرعة التدخل الدبلوماسي ..الخ وتواترت الأنباء بسرعة عن مئات المسلحين الذين يبدو أنهم جاءوا من خارج الجزيرة ليقضوا على السلطنة ويقتلوا المئات والسيطرة على الجزيرة.. ويقودهم شرطي سابق من أوغندا يدعي«جون أوكللو» لإثارة الرعب، وتنفيذ خطة بريطانية للسيطرة على الجزيرة، بدليل مسؤولية القائد الإنجليزي للشرطة عن الموقف وتنظيمه خروج السلطان لبريطانيا وسجن علي محسن والقادة وعدم قتل « الثائرين» لهم وإتمام كل ذلك فيما وصفه أوكللو نفسه بثورة التسع ساعات! وقد سُجن علي محسن لعشر سنوات، وطردت الإدارة الجديدة المدعو «أوكللو» بعد أن سمى نفسه «الفيلد ماريشال» ليسجن في كينيا خوفاً من إشاعته روح التمرد ولو المأجور. هذا الموقف الواضح لم يفهم لسنوات أعقبت ذلك، ولا مجال لتفصيله، لأن ما شاع عقب الثورة، هي قصص عن سلاح كان منقولاً من الجزائر لحركات تحرير المستعمرات في دار السلام، وأن السفينة حولت إلى زنجبار، أما بتعليمات من تنجانيقا، أو إلى ما ذهب إليه البعض للقول إن الجزائر كانت تقصد ذلك منافسة لمصر ! وترك البعض كل ذلك ليقول إن عبد الناصر كان قد اتفق مع علي محسن لعقد اتفاقية دفاع مشترك مع زنجبار، وإقامة قاعدة عسكرية لمصر هناك! وان ذلك هو ما أخاف الإنجليز ونيريري فتآمروا وضاعت زنجبار! ومازال باحثون عرب يثيرون هذا التساؤل معي للآن، لأن كثيراً من الزنجباريين العرب ما زال يظن ذلك، وصحبت أحدهم وهو (ناصر الريامي) منذ عدة سنوات إلى محمد فايق شخصياً لإثارة دهشته وتأكيد النفي... كما أثار البعض في مصر التساؤلات نفسها عن وجود عسكري في زنجبار! وأقسمت لهم جميعاً أني لم أسمع بذلك! وصحبت بعضهم ثانية إلى محمد فايق ليؤكد الشهادة إزاء هذا التصور... ولأفهم أنا كيف تبني الأساطير سلباً أو إيجاباً! ارتبط تأكيدنا لكل ذلك بأن سارعنا بالاعتراف بالأوضاع الجديدة في زنجبار مع وعود- بعد زيارة فايق للجزيرة ولتنجانيقا- بتخفيف الضغط القائم على العرب بالاعتقالات أو التعرض لحياتهم، وبالتأكيد لدار السلام أننا لا نريد التدخل وإنما العمل الأفريقي الوحدوي.. وسهل الأمور وجود اليساريين لبعض الوقت في السلطة لكن سرعان ما تم التخلص منهم أيضاً فأبعد سالم أحمد سالم سفيراً، وذهب عبد الرحمن بابو فيلسوف الثورة إلى دار السلام. عندما مررت يوماً وأنا في زيارة لتنزانيا بعد فترة وجيزة من الانقلاب/ الثورة، عرجت على مقهى مشهور بشارع الاستقلال بدار السلام، وجدت عبد الرحمن بأبو الزعيم الزنجباري اليساري السابق جالساً وحده، في حالة تأمل، وعندما فاجأته بوجودي وسؤالي، قال أفكر في الثورة المهدرة!